فصل: سنة إحدى وأربعين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مدة خلافته ومقدار عمره:

وقد قال بعضهم: كانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، وقيل: كان عمره تسعاً وخمسين، وقيل: خمساً وستين، وقيل: ثمانياً وخمسين. والأول أصح. ولما قتل دفن عند مسجد الجماعة، وقيل: في القصر، وقيل غير ذلك. والأصح أن قبره هو الموضع الذي يزار ويتبرك به.

.ذكر نسبه وصفته ونسائه وأولاده:

كان آدم شديد الأدمة، ثقيل العينين عظيمهما، ذا بطن، أصلع، عظيم اللحية، كثير شعر الصدر، هو إلى القصر أقرب، وقيل: كان فوق الربعة، وكان ضخم عضلة الذراع، دقيق مستدقها، ضخم عضلة الساق، دقيق مستدقها، وكان من أحسن الناس وجهاً، ولا يغير شيبه، كثير التبسم.
وأما نسبه فهو علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، وأما فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. وهو أول خليفة، أبواه هاشميان، ولم يل الخلافة إلى وقتنا هذا من أبواه هاشميان غيره، وغير الحسن ولده، ومحمد الأمين، فإن أباه هارون الرشيد وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور.
وأما أزواجه فأول زوجة تزوجها فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يتزوج عليها حتى توفيت عنده، وكان له منها الحسن والحسين، وقد ذكر أنه كان له منها ابن آخر يقال له محسن وأنه توفي صغيراً، وزينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى. ثم تزوج بعدها أم البنين بنت حرام الكلابية، فولدت له العباس وجعفراً وعبد الله وعثمان، قتلوا مع الحسين بالطف ولا بقية لهم غير العباس، وتزوج ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلية التميمية، فولدت له عبيد الله وأبا بكر، قتلا مع الحسين، وقيل: إن عبيد الله قتله المختار بالمذار، وقيل: لا بقية لهما. وتزوج أسماء بنت عميس الخثعمية، فولدت له محمداً الأصغر ويحيى، ولا عقب لهما، وقيل: إن محمداً لأم ولد، وقتل مع الحسين، وقيل: إنها ولدت له عوناً، وله من الصهباء بنت ربيعة التغلبية، وهي من السبي الذي أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التمر، وولدت له عمر بن علي، ورقية بنت علي، فعمر عمر حتى بلغ خمساً وثمانين سنة، فحاز نصف ميراث علي، ومات بينبع. وتزوج علي أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، وأمها زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فولدت له محمداً الأوسط، وله محمد ابن علي الأكبر الذي يقال له ابن الحنفية، أمه خولة بنت جعفر من بني حنيفة. وتزوج علي أيضاً أم سعيد ابنة عروة بن مسعود الثقفية، فولدت له أم الحسن ورملة الكبرى، وأم كلثوم، وكان له بنات من أمهات شتى لم يذكرن لنا، منهن أم هانىء، وميمونة، وزينب الصغرى، ورملة الصغرى، وأم كلثوم الصغرى، وفاطمة، وأمامة، وخديجة، وأم الكرام، وأم سلمة، وأم جعفر، وجمانة، ونفيسة، كلهن من أمهات أولاد. وتزوج أيضاً مخباة بنت امرىء القيس بن عدي الكلبية، فولدت له جارية هلكت صغيرة، كانت تخرج إلى المسجد فيقال لها: من أخوالك؟ فتقول: وه وه، تعني كلباً.
فجميع ولده أربعة عشر ذكراً، وسبع عشرة امرأة، وكان النسل منهن للحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس بن الكلابية وعمر بن التغلبية.

.ذكر عماله:

وكان عامله على البصرة هذه السنة عبد الله بن عباس، وقد ذكرنا الاختلاف في أمره، وكان إليه الصدقات والجند والمعاون أيام ولايته كلها، وكان على قضائها من قبل علي أبو الأسود الدئلي، وكان على فارس زياد، وقد ذكرنا مسيره إليها، وكان على اليمن عبيد الله بن عباس، حتى كان من أمره وأم بسر بن أبي أرطأة ما ذكر، وكان على الطائف ومكة وما اتصل بذلك قثم ابن عباس، وكان على المدينة أبو أيوب الأنصاري، وقيل: سهل بن حنيف، وكان عند قدوم بسر عليه من أمره ما كان، وذكر.

.ذكر بعض سيرته:

كان أبو رافع مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خازناً لعلي على بيت المال، فدخل علي يوماً وقد زينت ابنته، فرأى عليها لؤلؤة كان عرفها لبيت المال فقال: من أين لها هذه؟ لأقطعن يدها! فلما رأى أبو رافع جده في ذلك قال: أنا والله يا أمير المؤمنين زينتها بها. فقال علي: لقد تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار وما لي خادم غيرها.
قال ابن عباس: قسم علم الناس خمسة أجزاء، فكان لعلي منها أربعة أجزاء ولسائر الناس جزء شاركهم علي فيه فكان أعلمهم به.
وقال أحمد بن حنبل: ما جاء لأحد من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، ما جاء لعلي.
وقال عمرو بن ميمون: لما ضرب عمر بن الخطاب وجعل الخلافة في الستة من الصحابة، فلما خرجوا من عنده قال: إن يولوها الأجلح يسلك بهم الطريق، فقال له ابنه عبد الله: فما يمنعك يا أمير المؤمنين من توليته؟ قال: أكره أن أتحملها حياً وميتاً.
وقال عاصم بن كليب عن أبيه: قدم على علي مال من أصبهان فقسمه على سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفاً فقسمه على سبعة، ودعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولاً.
وقال هارون بن عنترة عن أبيه: دخلت على علي بالخورنق وهو فصل شتاء وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً وأنت تفعل هذا بنفسك؟ فقال: والله ما أرزأكم شيئاً وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة.
وقال يحيى بن سلمة: استعمل علي عمرو بن سلمة على أصبهان فقدم ومعه مال وزقاق فيها عسل وسمن فأرسلت أم كلثوم بنت علي إلى عمرو تطلب منه سمناً وعسلاً، فأرسل إليها ظرف عسل وظرف سمن. فلما كان الغد خرج علي وأحضر المال والعسل والسمن ليقسم، فعد الزقاق فنقصت زقين، فسأل عنهما، فكتمه وقال: نحن نحضرهما، فعزم عليه إلا ذكرها له، فأخبره، فأرسل إلى أم كثلوم فأخذ الزقين منها فرآهما قد نقصا فأمر التجار بتقويم ما نقص منهما، فكان ثلاثة دراهم، فأرسل إليها فأخذها منها ثم قسم الجميع.
قيل: وخرج من همذان فرأى رجلين يقتتلان ففرق بينها ثم مضى، فسمع صوتاً: يا غوثاه بالله! يحضر نحوه وهو يقول: أتاك الغوث. فإذا رجل يلازم رجلاً. فقال: يا أمير المؤمنين بعت هذا ثوباً بسبعة دراهم وشرطت أن لا يعطيني مغموزاً ولا مقطوعاً، وكان شرطهم يومئذ، فأتاني بهذه الدراهم، فأتيت ولزمته فلطمني. فقال للاطم: ما تقول؟ فقال: صدق يا أمير المؤمنين. فقال: أعطه شرطه. فأعطاه. وقال للملطوم: اقتص. قال: أو أعفو يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك إليك. ثم قال: يا معشر المسلمين خذوه، فأخذوه، فحمل على ظهر رجل كما يحمل صبيان الكتاب، ثم ضربه خمس عشرة درة وقال: هذا نكالٌ لما انتهكت من حرمته.
ولما قتل، كرم الله وجهه، قام ابنه الحسن خطيباً فقال: لقد قتلتم الليلة رجلاً في ليلة نزل فيها القرآن وفيها رفع عيسى وفيها قتل يوشع بن نون، والله ما سبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد يكون بعده، والله إن كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يبعثه في السرية وجبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا ثمانمائة أو سبعمائة أرصدها لجارية.
وقال سفيان: إن علياً لم يبن آجرة على آجرة، ولا لبنةً على لبنة، ولا قصبةً على قصبة، وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب.
وقيل: إنه أخرج سيفاً له إلى السوق فباعه وقال: لو كان عندي أربعة دراهم ثمن إزار لم أبعه. وكان لا يشتري ممن يعرفه، وإذا اشترى قميصاً قدر كمه على طول يده وقطع الباقي. وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه ويقول: لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم.
وقال الشعبي: وجد علي درعاً له عند نصراني فأقبل به إلى شريح وجلس إلى جانبه وقال: لو كان خصمي مسلماً لساويته، وقال: هذه درعي! فقال النصراني: ما هي إلا درعي، ولم يكذب أمير المؤمنين؟ فقال شريح لعلي: ألك بنية؟ قال: لا، وهو يضحك، فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ثم عاد وقال: أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه. ثم أسلم واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إلى صفين، ففرح علي بإسلامه ووهب له الدرع وفرساً، وشهد معه قتال الخوارج.
وقيل: إن علياً رؤي وهو يحمل في ملحفته تمراً قد اشتراه بدرهم، فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك؟ فقال: أبو العيال أحق بحمله.
وقال الحسن بن صالح: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز، فقال عمر: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.
وقال المدائني: نظر علي إلى قوم ببابه فقال لقنبر مولاه: من هؤلاء؟ قال: شيعتك يا أمير المؤمنين. قال: وما لي لا أرى فيهم سيما الشيعة؟ قال: وما سيماهم؟ قال: خمص البطون من الطوى، يبس الشفاه من الظمإ، عمش العيون من البكاء.
ومناقبه لا تحصى، وقد جمع قضاياه في كتاب مفرد.

.ذكر بيعة الحسن بن علي:

وفي هذه السنة، أعني سنة أربعين، بويع الحسن بن علي بعد قتل أبيه. وأول من بايعه قيس بن سعد الأنصاري، وقال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وقتال المحلين. فقال الحسن: على كتاب الله وسنة رسوله فإنهما يأتيان على كل شرط. فبايعه الناس. وكان الحسن يشترط عليهم: إنكم مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت. فارتابوا بذلك وقالوا: ما هذا لكم بصاحب وما يريد هذا إلا القتال.

.ذكر عدة حوادث:

حج بالناس هذه السنة المغيرة بن شعبة، وافتعل كتاباً على لسان معاوية، فيقال: إنه عرف يوم التروية، ونحر يوم عرفة خوفاً أن يفطن لفعله، وقيل: فعل ذلك لأنه بلغه أن عتبة بن أبي سفيان مصبحه والياً على الموسم.
وفيها بويع معاوية بالخلافة ببيت المقدس، وكان قبل ذلك يدعى بالأمير في بلاد الشام، فلما قتل علي دعي بأمير المؤمنين، هكذا قال بعضهم، وقد تقدم أنه بويع بالخلافة بعد اجتماع الحكمين، والله أعلم.
وكانت خلافة الحسن ستة أشهر.
وفيها مات الأشعث بن قيس الكندي بعد قتل علي بأربعين ليلة وصلى عليه الحسن بن علي. وفيها مات حسان بن ثابت وأبو رافع مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهما من الصحابة. وفيها مات شرحبيل بن السمط الكندي وهو من أصحاب معاوية، قيل له صحبة، وقيل لا صحبة له. وفي أول خلافة علي مات جهجاه الغفاري له صحبة. وفيها مات الحارث بن خزمة الأنصاري، شهد بدراً وأحداً وغيرهما. وفيها مات خوات بن جبير الأنصاري بالمدينة، وكان قد خرج مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى بدر فرجع لعذر فضرب له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بسهمه، وهو صاحب ذات النحيين.
وفي خلافة علي مات قرظة بن كعب الأنصاري بالكوفة، وقيل: بل مات في إمارة المغيرة على الكوفة لمعاوية، شهد أحداً وغيرها وشهد سائر المشاهد مع علي. ومات معاذ بن عفراء الأنصاري في أول خلافة علي، وهو بدري، شهد المشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وفي خلافته مات أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، وكان نقيباً، شهد بدراً، وقيل: بل استخلفه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المدينة ورده من طريق بدر وضرب له بسهمه. وفيها توفي معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، له صحبة، قديم الإسلام، هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وكان على خاتم النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان مجذوماً، واستعمله أبو بكر وعمر على بيت المال، وكان معه الخاتم أيام عثمان، فمن يده وقع الخاتم، وقيل: إنه توفي آخر خلافة عثمان. ثم دخلت:

.سنة إحدى وأربعين:

.ذكر تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية:

كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام، فبينما هو يتجهز للمسير قتل، كرم الله وجهه، وإذا أراد الله أمراً فلا مرد له. فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه، فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا علياً وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية، وكان قد نزل مسكن، فوصل الحسن إلى المدائن وجعل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على مقدمته في اثني عشر ألفاً، وقيل بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبد الله بن عباس، فجعل عبد الله على مقدمته في الطلائع قيس بن سعد بن عبادة. فلما نزل الحسن المدائن نادى مناد في العسكر: ألا إن قيس بن سعد قتل فانفروا. فنفروا بسرادق الحسن، فنهبوا متاعه حتى نازعوه بساطاً كان تحته، فازداد لهم بغضاً ومنهم ذعراً ودخل المقصورة البيضاء بالمدائن، وكان الأمير على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد، فقال له المختار، وهو شاب: هل لك في الغنى والشرف. قال: وما ذاك؟ قال: تستوثق من الحسن وتستأمن به إلى معاوية. فقال له عمه: عليك لعنة الله! أثب على ابن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأوثقه؟ بئس الرجل أنت! فلما رأى الحسن تفرق الأمر عنه كتب إلى معاوية وذكر شروطاً وقال له: إن أنت أعطيتني هذا فأنا سامعٌ مطيعٌ وعليك أن تفي لي به. وقال لأخيه الحسين وعبد الله بن جعفر: إنني قد راسلت معاوية في الصلح. فقال له الحسين: أنشدك الله أن تصدق أحدوثة معاوية وتكذب أحدوثة أبيك! فقال له الحسن: اسكت، أنا أعلم بالأمر منك.
فلما انتهى كتاب الحسن إلى معاوية أمسكه، وكان قد أرسل عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس إلى الحسن قبل وصول الكتاب ومعهما صحيفة بيضاء مختوم على أسفلها، وكتب إليه: أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك.
فلما أتت الصحيفة إلى الحسن اشترط أضعاف الشروط التي سأل معاوية قبل ذلك وأمسكها عنده، فلما سلم الحسن الأمر إلى معاوية طلب أن يعطيه الشروط التي في الصحيفة التي ختم عليها معاوية، فأبى ذلك معاوية وقال له: قد أعطيتك ما كنت تطلب. فلما اصطلحا قام الحسن في أهل العراق فقال: يا أهل العراق إنه سخى بنفسي عنكم ثلاثٌ: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي.
وكان الذي طلب الحسن من معاوية أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة، ومبلغه خمسة آلاف ألف، وخراج دار ابجرد من فارسن وأن لا يشتم علياً، فلم يجبه إلى الكف عن شتم علي، فطلب أن لا يشتم وهو يسمع، فأجابه إلى ذلك ثم لم يف له به أيضاً، وأما خراج دار ابجرد فإن أهل البصرة منعوه منه وقالوا: هو فيئنا لا نعطيه أحداً، وكان منعهم بأمر معاوية أيضاً.
وتسلم معاوية الأمر لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة، وقيل: في ربيع الآخر، وقيل: في جمادى الأولى، وقيل: إنما سلم الحسن الأمر إلى معاوية لأنه لما راسله معاوية في تسليم الخلافة إليه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلام بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره، وأما الباقي فخاذل، وأما الباكي فثائر، ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفةٌ، فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله، عز وجل، بظبى السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى.
فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية! وأمضى الصلح.
ولما عزم على تسليم الأمر إلى معاوية خطب الناس فقال: أيها الناس إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم ونحن أهل بيت نبيكم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. وكرر ذلك حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيجه. فلما ساروا إلى معاوية في الصلح اصطلحا على ما ذكرناه وسلم إليه الحسن الأمر.
وكانت خلافة الحسن، على قول من يقول: إنه سلم الأمر في ربيع الأول، خمسة أشهر ونحو نصف شهر، وعلى قول من يقول: في ربيع الآخر، يكون ستة أشهر وشيئاً، وعلى قول من يقول: في جمادى الأولى، يكون سبعة أشهر وشيئاً، والله تعالى أعلم.
ولما اصطلحا وبايع الحسن معاوية دخل معاوية الكوفة وبايعه الناس، وكتب الحسن إلى قيس بن سعد، وهو على مقدمته في اثني عشر ألفاً يأمره بالدخول في طاعة معاوية، فقام قيس في الناس فقال: أيها الناس اختاروا الدخول في طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام. فقال بعضهم: بل نختار الدخول في طاعة إمام ضلالة. فبايعوا معاوية أيضاً. فانصرف قيس فيمن تبعه، على ما نذكره.
ولما دخل معاوية الكوفة قال له عمرو بن العاص ليأمر الحسن أن يقوم فيخطب الناس ليظهر لهم عيه. فخطب معاوية الناس ثم أمر الحسن أن يخطبهم. فقام فحمد الله بديهةً ثم قال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دولٌ، وإن الله، عز وجل، قال لنبيه {وإن أدري لعله فتنةٌ لكم ومتاعٌ إلى حينٍ} الأنبياء: 111. فلما قاله قال له معاوية: اجلس، وحقدها على عمرو وقال: هذا من رأيك.
ولحق الحسن بالمدينة وأهل بيته وحشمهم، وجعل الناس يبكون عند مسيرهم من الكوفة.
قيل للحسن: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة قوماً لا يثق بهم أحدٌ أبداً إلا غلب، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى، مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر، لقد لقي أبي منهم أموراً عظاماً، فليت شعري لمن يصلحون بعدي، وهي أسرع البلاد خراباً! ولما سار الحسن من الكوفة عرض له رجل فقال له: يا مسود وجوه المسلمين! فقال: لا تعذلي فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رأى في المنام بني أمية ينزون على منبره رجلاً فرجلاً فساءه ذلك فأنزل الله، عز وجل: {إنا أعطيناك الكوثر} وهو نهر في الجنة، و{إنا أنزلناه في ليلة القدر} إلى قوله تعالى: {خيرٌ من ألف شهرٍ} [القدر: 1 – 3] يملكها بعدك بنو أمية.

.ذكر صلح معاوية وقيس بن سعد:

وفيها جرى الصلح بين معاوية وقيس بن سعد، وكان قيس امتنع من ذلك، وسبب امتناعه أن عبيد الله بن عباس لما علم بما يريده الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية كتب إلى معاوية يسأله الأمان لنفسه على ما أصاب من مال وغيره، فأجابه إلى ذلك، وأرسل عبد الله بن عامر في جيش كثيف، فخرج إليهم عبيد الله ليلاً وترك جنده الذين هو عليهم بغير أمير وفيهم قيس بن سعد، فأمر ذلك الجند عليهم قيس بن سعد وتعاقدوا هو وهم على قتال معاوية حتى يشرط لشيعة علي ولمن كان معه على دمائهم وأموالهم. وقيل: إن قيساً كان هو الأمير على ذلك الجيش في المقدمة، على ما ذكرناه، وكان شديد الكراهة لإمارة معاوية ابن أبي سفيان، فلما بلغه أن الحسن بن علي صالح معاوية اجتمع معه جمع كثير وبايعوه على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي على دمائهم وأموالهم وما كانوا أصابوا في الفتنة، فراسله معاوية يدعوه إلى طاعته، وأرسل إليه بسجل، وختم على أسفله وقال له: اكتب في هذا ما شئت فهو لك. فقال عمرو لمعاوية: لا تعطه هذا وقاتله. فقال معاوية: على رسلك فإنا لا نخلص إلى قتلهم حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشام، فما خير العيش بعد ذلك؟ فإني والله لا أقاتله أبداً حتى لا أجد من قتاله بداً.
فلما بعث إليه معاوية ذلك السجل اشترط قيس له ولشيعة علي الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يسأل في سجله ذلك مالاً، وأعطاه معاوية ما سأل، ودخل قيس ومن معه في طاعته.
وكانوا يعدون دهاة الناس حين ثارت الفتنة خمسةً يقال إنهم ذوو رأي العرب ومكيدتهم: معاوية، وعمرو، والمغيرة بن شعبة، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل الخزاعي، وكان قيس وابن بديل مع علي، وكان المغيرة معتزلاً بالطائف، ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه سعد بن أبي وقاص فقال: السلام عليك أيها الملك! فضحك معاوية وقال: ما كان عليك يا أبا إسحاق لو قلت: يا أمير المؤمنين؟ فقال: أتقولها جذلان ضاحكاً؟ والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به!

.ذكر خروج الخوارج على معاوية:

قد ذكرنا فيما تقدم اعتزال فروة بن نوفل الأشجعي في خمسمائة من الخوارج ومسيرهم إلى شهرزور، وتركوا قتال علي والحسن؛ فلما سلم الحسن الأمر إلى معاوية قالوا: قد جاء الآن ما لا شك فيه، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه. فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى حلوا بالنخيلة عند الكوفة، وكان الحسن ابن علي قد سار يريد المدينة، فكتب إليه معاوية يدعوه إلى قتال فروة، فلحقه رسوله بالقادسية أو قريباً منها، فلم يرجع وكتب إلى معاوية: لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإني تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها.
فأرسل إليهم معاوية جمعاً من أهل الشام، فقاتلوهم، فانهزم أهل الشام، فقال معاوية لأهل الكوفة: والله لا أمان لكم عندي حتى تكفوهم. فخرج أهل الكوفة فقاتلوهم. فقالت لهم الخوارج: أليس معاوية عدونا وعدوكم؟ دعونا حتى نقاتله، فإن أصبنا كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا. فقالوا: لابد لنا من قتالكم. فأخذت أشجع صاحبهم فروة فحادثوه ووعظوه فلم يرجع، فأخذوه قهراً وأدخلوه الكوفة، فاستعمل الخوارج عليهم عبد الله بن أبي الحوساء، رجلاً من طيء، فقاتلهم أهل الكوفة فقتلوهم في ربيع الأول، وقيل: في ربيع الآخر، وقتل ابن أبي الحوساء، وكان ابن أبي الحوساء حين ولي أمر الخوارج قد خوف من السلطان أن يصلبه، فقال:
ما إن أبالي إذا أرواحنا قبضت ** ماذا فعلتم بأوصالٍ وأبشار

تجري المجرة والنسران عن قدرٍ ** والشمس والقمر الساري بمقدار

وقد علمت، وخير القول أنفعه، ** أن السعيد الذي ينجو من النار

.ذكر خروج حوثرة بن وداع:

ولما قتل ابن أبي الحوساء اجتمع الخوارج فولوا أمرهم حوثرة بن وداع ابن مسعود الأسدي، فقام فيهم وعاب فروة بن نوفل لشكه في تقال علي ودعا الخوارج وسار من براز الروز، وكان بها، حتى قدم النخيلة في مائة وخمسين، وانضم إليه فل ابن أبي الحوساء، وهم قليل، فدعا معاوية أبا حوشرة فقال له: اخرج إلى ابنك فلعله يرق إذا رآك. فخرج إليه وكلمه وناشده وقال: ألا أجيئك بابنك فلعلك إذا رأيته كرهت فراقه؟ فقال: أنا إلى طعنة من يد كافر برمح أتقلب فيه ساعة أشوق مني إلى ابني. فرجع أبوه فأخبر معاوية بقوله، فسير معاوية إليهم عبد الله بن عوف الأحمر في ألفين، وخرج أبو حوثرة فيمن خرج فدعا ابنه إلى البراز، فقال: يا أبه لك في غيري سعة. وقاتلهم ابن عوف وصبروا، وبارز حوثرة عبد الله بن عوف فطعنه ابن عوف فقتله وقتل أصحابه إلا خمسين رجلاً دخلوا الكوفة، وذلك في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين. ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة، فندم على قتله، وقال:
قتلت أخا بني أسدٍِ سفاهاً ** لعمر أبي فما لقيت رشدي

قتلت مصلياً محياء ليلٍ ** طويل الحزن ذا برٍ وقصد

قتلت أخا تقىً لأنال دنيا ** وذاك لشقوتي وعثار جدي

فهب لي توبةً يا رب واغفر ** لما قارفت من طإٍ وعمد

.ذكر خروج فروة بن نوفل ومقتله:

ثم إن فروة بن نوفل الأشجعي خرج على المغيرة بن شعبة بعد مسير معاوية، فوجه إليه المغيرة خيلاً عليها شبث بن ربعي، ويقال: معقل بن قيس، فلقيه بشهرزور فقتله، وقيل قتل ببعض السواد.

.ذكر شبيب بن بجرة:

كان شبيب مع ابن ملجم حين قتل علياً، فلما دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب كالمتقرب إليه فقال: أنا وابن ملجم قتلنا علياً، فوثب معاوية من مجلسه مذعوراً حتى دخل منزله وبعث إلى أشجع وقال: لئن رأيت شبيباً أو بلغني أنه ببابي لأهلكنكم، أخرجوه عن بلدكم، وكان شبيب إذا جن عليه الليل خرج فلم يلق أحداً إلا قتله، فلما ولي المغيرة الكوفة خرج عليه بالقف قريب الكوفة، فبعث إليه المغيرة خيلاً عليها خالد بن عرفطة، وقيل: معقل ابن قيس، فاقتتلوا فقتل شبيب وأصحابه.